تغييب إجباري لـ"الصحة النفسية" في مدارس اليمن

نجيب علي العصار


" أتخوف من أن أتحدث عن أحلامي المزعجة والمخيفة التي توقظني من النوم لمن حولي، حتى لا يتهمونني بالجنون".

بهذه العبارات المؤلمة تصف الطالبة ندى (اسم مستعار) حياتها تحت وطأة الحرب المستمرّة في اليمن.


وتضيف ندى (13 عاما) التي تدرس في الصف السابع من المرحلة الأساسية لـ "طالب يمني"، قائلة:" لا أحب أن أتذكر صوت قصف الطائرات، لقد مررت بظروف صعبة، أحلم أحياناً أن سقف غرفتي ينطبق عليّ فجأة، في كل مرة أصحو على رعشة في جسدي أو أصرخ بأعلى صوتي في الليل، حين شعر أبي أنني لست بخير، حاول الذهاب بي إلى طبيب نفسي لكن أمي امتنعت، في ذلك الوقت، داهمني شعور أكثر بشاعة بأنني صرت مجنونة وأصبحت أخجل من مقابلة صديقاتي".


علاج معرفي سلوكي 


وبشكل عام أثرت الحرب في اليمن نفسياً على مختلف الفئات العمرية في المجتمع، والأطفال بشكل خاص ومنهم الطلاب في المدارس؛ حسبما قاله الدكتور مطهر صوفان، الأخصائي النفسي في ثانوية جمال عبد الناصر النموذجية للمتفوقين بأمانة العاصمة صنعاء، لـ"طالب يمني".


ويشير إلى أن خصوصية مدرسة جمال عبد الناصر التي تضم أكثر من 600 طالب، ومستوى التعليم فيها جعل كثير من الطلبة عرضة لضغوط نفسية تطورت بعضها إلى حالات اكتئاب بسبب التحصيل الدراسي الذي تلقوه في مدارسهم قبل الالتحاق بها.


ويوضح صوفان أن الأضرار النفسية التي انعكست على الطلبة في المدارس جراء الحرب تقع بين المتوسطة والعادية، فالكثير من الطلبة يعانون من القلق والاكتئاب النفسي، ويتم علاج بعض الحالات بالمهدئات وإذا تطورت يتم إحالتهم إلى مركز متخصص، أما أغلب العلاج الذي يخضع له الطلبة المصابون بالاضطراب النفسي في ثانوية عبد الناصر فهو "معرفي سلوكي".


والعلاج المعرفي السلوكي (CBT) هو تدخل نفسي اجتماعي يهدف إلى تحسين الصحة العقلية، و يركز على تحدي وتغيير التشوهات المعرفية غير المفيدة (مثل الأفكار والمعتقدات والسلوكيات والمواقف)  الصعبة ثم تطوير طرق تساعد الشخص على التخلص من هذه الحالة وجعله أكثر توازنًا.


50 مدرسة بلا "اخصائيين"


معد التقرير قام بالنزول الميداني إلى 50 مدرسة حكومية من مدارس أمانة العاصمة صنعاء ومحافظتي عمران وحجة، لتقصي واقع الصحة النفسية فيها، و وجد أنها تخلو من الاخصائيين النفسيين.


وتبعا لذلك يقر مدير مدرسة النهضة بصنعاء أحمد العابدي، أن الصحة النفسية في المدارس مدمرة جراء استمرار الحرب، التي أثرت على الطالب والمعلم وهيئة التدريس والمواطنين أيضاً.


ويؤكد العابدي لـ"طالب يمني"، أن المدارس تواجه نقصاً في أعداد المتخصصين في تقديم الدعم النفسي والاجتماعي. 


ويشير إلى أن الموجودين في المدارس رغم قلة عددهم يواجهون مشكلة حقيقية هي نقص الموارد، إضافة إلى عدم وجود عدد كافٍ من المختصين للتعامل مع أعداد هائلة من الحالات التي تحتاج إلى الدعم النفسي.




مآس وألام


ومنذ مارس 2015 حتى الآن، عايش الأطفال الحرب، الأمر الذي خلف صدمات نفسية هائلة بالنسبة لهم، يصعب التعامل معها في معظم الأحيان؛ حسبما أكدته الاخصائية النفسية نسيم مبارك لـ"طالب يمني". 


وتشير مبارك -التي تعمل في المساحة الأمنة باتحاد نساء اليمن، إلى أن "الاضطرابات النفسية تزايدت بشكل لافت خلال الحرب في أوساط الطلبة وخاصة في المدارس الحكومية ".


وتوضح بأن أغلب الأعراض شيوعا عند الأطفال في المدارس من سن (7- 12) هي المشاكل السلوكية (تبول لا ارادي، خوف، قضم الأظافر، سرقة، كذب، عدوانية) بشكل عام، أما بالنسبة للشباب المراهقين في سن (13-17) سوآءا كانوا ذكور أو أناث، فمشاكلهم عاطفية إلى جانب اضطرابات في المشاعر وعناد وتنمر.


وتلفت مبارك إلى أن 25 في المائة من الأمهات اللاتي يستفدن من خدمات الصحة النفسية، يشكين من سلوكيات أبنائهن وما يعانون من مشكلات نفسية.


غياب تام للصحة النفسية 


وبفعل الحرب، وسوء التغذية وانقطاع مرتبات المعلمين، غابت الصحة النفسية في المدارس تماما؛ حد تأكيد مدير عام الصحة المدرسية بوزارة التربية والتعليم بصنعاء، عادل البرطي، لـ "طالب يمني".


ويشير البرطي، إلى أن إزدياد الحالات النفسية في أوساط الطلبة والمعلمين والمجتمع الأسري، استدعى التنسيق الكامل مع برنامج الصحة النفسية في وزارة الصحة والسكان ومنظمة الصحة العالمية لمواجهتها من خلال عمل عدة دورات للمشرفيين الصحيين والأخصائيين الاجتماعيين وبعض الكادر الحاملين لبكالوريوس الارشاد النفسي.


ويضيف: لهذه الخطوة الاثر الواضح لتعلم مفاهيم وطرق علاجية جديدة في المدارس وتشخيص الحالات قبل الإحالة للأخصائيين النفسيين.


 ويعترف بأن إدارة التثقيف الصحي والبيئي التابعة للإدارة العامة للصحة المدرسية في الوزارة، تعاني من عدم وجود قاعدة بيانات واضحة عن الأخصائيين في المدارس، ناهيك عن أن أكثر الاخصائيين يعملون في غير مجالهم، بالإضافة إلى انقطاع الراتب ونقص المعلمين في ظل الحرب.




إحصائيات غائبة


ويعد أطفال المدارس هم أكثر الفئات في المجتمع اليمني تأثراً من الناحية النفسية، جراء الحرب؛ حسب تأكيد الدكتورة جميلة الحيفي، مديرة البرنامج الوطني للصحة النفسية والدعم النفسي والاجتماعي بوزارة الصحة العامة والسكان بصنعاء.


وتضيف الحيفي لـ"طالب يمني"، بأن هذه الأضرار ستترك أثارا على نفسياتهم لسنوات، تتراوح درجة شدتها وخطورتها بقدر استيعاب ووعي الأسرة لكيفية مساعدة أطفالها على تجاوز هذه المشاعر والصدمات النفسية.


 وتوضح بأن الوزارة بصدد إنشاء قاعدة بيانات للمساعدة في الحد من الانتشار الواسع للإصابة بالأمراض النفسية جراء الأزمات الراهنة سواء كانت متعلقة بالحرب أو بالجانب الصحي.


 وذكرت بأن الوزارة قامت بتدريب أكثر من 500 اخصائي نفسي و اجتماعي ومشرف مدرسي و صحي في المدارس، وما تزال خطة بناء القدرات مستمرة لاعتماد وتنفيذ برامج الاكتشاف المبكر للحالات النفسية بين الاطفال و التشخيص و العلاج للاضطرابات النفسية، بالتعاون و الشراكة مع وزارة التربية و التعليم.


ضرورة لا ترف


من جهتها تقول الاخصائية الاجتماعية فوزية مريسي، لـ"طالب يمني"، إن "المدرسة تُعتبر المؤسسة الاجتماعية التي تلي الأسرة مباشرة في أهميتها وتأثيرها على الصحة النفسية ودرجة توافق الأبناء نفسيا واجتماعيا، خاصة أن الأسرة في ظل الحرب لا تتيح لها إمكانياتها وظروف الآباء فيها أن تضطلع بجميع المهام التي كانت تضطلع بها قديما عندما كانت الحياة بسيطة ومتطلباتها محدودة".


وطالبت الجهات المعنية في وزارتي التربية والتعليم والصحة، بتوفير اخصائيين اجتماعيين ونفسيين داخل المدارس، باعتبار وجودهم ضرورة لمساعدة الطلبة والطالبات في تحقيق رفاه نفسي، ومساعدتهم في التغلب على صعوبات التعلم وحل مشاكلهم، ومساعدة المعلمين في إيجاد الطريقة المثلى للتعامل مع الطلبة، وكيفية إيجاد سياسة الترغيب والترهيب المثلى في التعامل مع الطلاب وزيادة تحصيلهم العلمي.




أمراً بالغ الأهمية


قد لا تحظى الصحة النفسية بالاهتمام الكافي في مجال التعليم الأساسي، ولابد لهذا الموقف أن يتغير.


ويجّزم الدكتور لطف محمد حريش، أستاذ علم النفس بجامعة ذمار، لـ"طالب يمني "، أن التعامل مع احتياجات الصحة النفسية في المدارس أمراً بالغ الأهمية، حيث إنه يوجد 1 من كل 5 أطفال أو شباب، يعاني من اضطراب عاطفي أو سلوكي أو عقلي قابل للتشخيص، ويوجد 1 من كل 10 شباب لديه مشكلة في الصحة العقلية تعيق عمله في المنزل والمدرسة أو في المجتمع.


ويضيف: "من المهم تحديد المشاكل الصحية النفسية للأطفال ومساعدتهم عليها لأنها شائعة، وغالباً ما تتطور خلال مرحلة الطفولة والمراهقة، ولكن يمكن معالجتها، كما تساعد استراتيجيات الكشف والتدخل المبكر على تحسين القدرة على التكيف، والنجاح في المدرسة والحياة".


دور إيجابي


وخلص حريش إلى أن المدارس قد توفر فرصاً لتحسين وتعزيز الصحة العقلية، وتمثل مكاناً يُحتمل أن يمنع تطور اضطرابات نفسية أكثر خطورة، لكن إذا تم دعم وحدات الدعم النفسي الاجتماعي داخل هذه المدارس من خلال تدريب المعلمين المتخصصين لتقديم الدعم النفسي، وتوسيع التدريب ليشمل جميع المعلمين في المدارس، بالتزامن مع حملة توعية واسعة تدفع بالمتضررين إلى طلب المساعدة والوصول إلى مراكز ومنظمات تقدم الدعم النفسي والاجتماعي، وغيرها من الخدمات التي تمنع انتشار الاضطرابات النفسية أولا بأول في المدارس.




10 ملايين طفل


لم تعد الأزمة في اليمن التي دخلت عامها الثامن تحتل أي اهتمام، إلا أن الحرب كان لها التأثير على رفاهية الأطفال وصحتهم النفسية بشكل خاص.


وتقول منظمة الأمم المتحدة للطفولة "يونيسيف"، إن النزاع الدائر والانقطاع المتكرر في العملية التعليمية في جميع أنحاء اليمن وتفتت نظام التعليم أضر بشكل عميق القطاع التعليمي، كما أضر بشكل عام التطور المعرفي والصحة النفسية لنحو عشرة ملايين طفل في سن الدراسة في اليمن.


ووفقا لتقرير حديث، قدرت اليونيسيف، أن هناك أكثر من مليوني طفل خارج المدارس بزيادة نصف مليون منذ بدء النزاع.




خدمات ضئيلة


ورغم ما يحتاجه طلبة المدارس من دعم متخصص ورعاية نفسية وعقلية مناسبة؛ فإن دراسة ميدانية أعدتها منظمة مواطنة لحقوق الإنسان، عن التعليم في اليمن خلال الفترة (فبراير 2019، حتى أبريل 2020)، تشير إلى أن 35% فقط، من التلاميذ في المدارس يحصلون على خدمة الرعاية الاجتماعية عبر أخصائيين اجتماعيين ونفسيين.


واعتمدت الدراسة التي أعدها الدكتور هاني المغلس، على عينة من طلبة المدارس الحكومية في مختلف المراحل العمرية، بلغ عدد أفرادها (400) طالب/ة من137 مدرسة في ثماني محافظات، إضافة إلى أمانة العاصمة صنعاء، وهي: تعز، الحديدة، محافظة صنعاء، عدن، أبين، الضالع، حجة، صعدة. وجرى اختيار المحافظات التي يعتقد أن قطاعاتها التعليمية تعرضت لأضرار مباشرة أوسع بسبب الحرب مقارنة بمحافظات أقل تضررًا.


أما الدكتورة كارول دونيلي، اخصائية علم النفس في جامعة نورث وسترون، وهي مهتمة بالأطفال الذين يعانون جراء ظروف الأزمة في اليمن ضمن مشروع يورجن، الذي يهتم بدراسة وقياس الأزمات، فتقول إن الصدمة النفسية لفترة طويلة وهو ما يبدو عليه الحال في اليمن قد يفاقم من مشكلات الصحة النفسية للأطفال و مع عدم وجود حلول لمعالجة هذا الأمر فسنواجه" جيلًا كاملًا من الأطفال المصابين بصدمات نفسية شديدة" ويكونوا مجرد عبء على المجتمع بأسره.


 ويتحدث تقرير صادر عن مشروع يورجن أن الترتيبات السكانية في اليمن قد تأثرت بشدة بسبب الحرب إلا أن الأطفال يتحملون وطأة هذه الحرب، فقد سجلت نسبة كبيرة من الأطفال استهلكت الحرب صحتهم النفسية.


 وأضافت: "لا مفر من الحرب، بالنسبة لأولئك في اليمن" ووضعت دونلي التسلسل الهرمي ل"ماسلو" ضمن الأوليات التي ستسهم في توفير فرصة أشمل لحل المشاكل النفسية والعقلية للأطفال بدءًا بتوفير الاحتياجات الأساسية والأمن وحتى الوصول إلى صحة نفسية أفضل بالنسبة للطفل.


ولم يقتصر تأثير الحرب على إصابات الكبار، بل نالت من الأطفال واليافعين، إذ خلصت دراسة نشرها مركز العربية السعيدة للدراسات في يونيو 2021، إلى أن معظم الأطفال في اليمن، من سن 10 – 19 عامًا يعانون من اضطرابات ما بعد الصدمة، جراء تأثير الحرب وما رافقها من عنف في الواقع وعبر وسائل الإعلام.


وفي عام 2018، وجدت دراسة أجرتها منظمة CARPO الألمانية عن تأثير الحرب على الصحة النفسية للأطفال اليمنيين في مدارس مدينة صنعاء، أن 79٪ ممن شملهم الاستطلاع يعانون من مظاهر خطيرة لاضطراب ما بعد الصدمة ( PTSD ). وخلصت الدراسة إلى أن درجة اضطراب ما بعد الصدمة بين هؤلاء الأطفال كانت أعلى من نظرائهم في الدول الهشة الأخرى التي تعاني من نزاعات.


ويصادف الأثنين المقبل العاشر من أكتوبر اليوم العالمي للصحة النفسية.


*ينشر التقرير بالشراكة بين منصتي "طالب يمني"، و"حجة 21"


#حصة_دراسية 

#طالب_يمني