"مُعلِّمات التعاقد" بحجَّة.. ازدواجية الأجور على أساس جندري

 طالب يمني / أحمد عوضه


في فصلٍ دارسي ذي نوافذ شبه محطمَّة، وجدرانٍ تسلَّخت عن بعض أجزائها طبقة الطلاء صانعةً خرائط عبثية على الجوانب والسقف، يزاحمها كتلٌ متراكبة من الكتابات والخربشات. يضم الفصل زهاء ثمانين تلميذًا من طلبة الصف الرابع الأساسي، وفي الأمام تقف معلمة الرياضيات بعباءتها السوداء المُبقَّعة بمستعمرات من مسحوق الطباشير. 


صار هذا المشهد الروتيني مألوفًا للأستاذة رباب شهيم (21 عامًا)، التي تعمل مُدِّرسة متعاقدة منذ بداية العام الدراسي الجاري. تتقاضى رباب ونظيراتها الثلاث اللاتي يعملن معها في مدرسة حكومية بنتها الكويت في منتصف السبعينيات، مبلغ 15 ألف ريال شهريًا، تدفعها إدارة المدرسة من مبالغ الرسوم التي يتم تحصيلها من الطلاب عوضًا عن المرتبات الحكومية المتوقفة منذ سنوات. ورغم أن هذا المبلغ الزهيد لا يتناسب مع مقدار المجهود الذي تبذله، لكن ليس ذلك ما يثير شعورها بالغبن. 


تقول لـ"حجة21": "صحيح أن مؤهلي العلمي لا يتعدى الثانوية العامة، كنت أرغب في مواصلة تعليمي الجامعي، لكن عدم وجود جامعة قريبة، وصعوبة الوضع المادي جعلتني أتصالح مع الواقع، لكن ما يثير الأسى أن المعلمات المتعاقدات يحصلن على مقدار اقل من الأجور، أنا مثلا _وثلاث متعاقدات غيري في المدرسة_ لا يتعدى مرتبنا الـ 15 ألف ريال، بينما أقل معلم هنا لا يقل مرتبه عن 20 ألف ريال، رغم أن جميعنا يقدم 12 حصة في الأسبوع طيلة الشهر". 


بالنسبة لها لا يعد هذا "الازدواج" في الأجور سببًا كافيًا لترك عملها غير المجزي، لأن دافعها الأساسي _كما تقول_ هو "فعل الخير وتقديم خدمة مجتمعية في ظل عدم توفر عدد كافٍ من المعلمين بعد اتجاه عدد كبير منهم إلى البحث عن أعمال أخرى، إثر انقطاع مرتباتهم".  


خطوة إلى الأمام وخطوتان إلى الخلف

على مدى عقود، رافق قطاع التربية والتعليم بمحافظة حجة مشكلات متعددة ومتداخلة، ساهمت في تدني جودة التعليم في مراحل متعاقبة، باستثناء التعافي الجزئي الذي شهدته المحافظة خلال النصف الثاني من العقد الفارط، قبل عودته إلى الانحدار مع بداية بوادر الصراع المسلح في البلاد عام 2014م، وما أعقبه من تدمير جزء كبير من البنية التحتية التعليمية، خصوصًا في مناطق السهل الغربي من المحافظة، فضلا عن التبعات والأعراض الجانبية أو المباشرة الأخرى. 


كنتيجة لذلك، يعد اليمن حاليًا أحد البلدان القليلة المُبعدة من تصنيف دافوس العالمي لجودة التعليم، بعد الانحدار الرهيب والمتلاحق في واقع التعليم، خلال السنوات السبع الماضية، جراء النزاع المسلح، وما نجم عنه من تداعي الهيكل التعليمي في البلاد، إلى جانب توقف صرف مرتبات مليون ونصف المليون موظف في القطاع العام منذ أغسطس 2016م، بمن فيهم المعلمين في المدارس الحكومية بمحافظة حجة، الذين نالوا نصيبًا مضاعفًا من التبعات، بحكم الواقع الجديد.


انقطاع مرتبات المعلمين في أكثر من محافظة يمنية، دفع بكثير منهم إلى التحول إلى العمل لدى المدارس الخاصة، أو العمل في مهن أخرى لا علاقة لها بالتعليم، بغرض توفير الحد الأدنى من أساسيات البقاء في ظل الواقع الاقتصادي الطاحن الذي تعيشه البلاد، الامر الذي أثَّر سلبًا على جودة التعليم في المدارس الحكومية لصالح المدارس الخاصة بشكل كبير. 


وفقًا لآخر إحصائية رسمية (قبل الحرب)، وصل عدد المدارس الحكومية في محافظة حجة زهاء 1295 مدرسة، منها 1059 مدرسة للمرحلة الأساسية، و32 مدرسة للمرحلة الثانوية، و204 مدرسة تجمع المرحلتين (أساسي – ثانوي)، يعمل فيها نحو 10581 معلم ومعلمة، بينما يصل عدد الطلاب في جميع مديريات المحافظة 257657 طالبًا في المراحل التعليمية كافّة. 


حلول قليلة الجدوى

تعدُّ محافظة حجة إحدى المحافظات ذات الكثافة السكانية المرتفعة نسبيًا، وهي أكبر محافظة يمنية من حيث عدد المديريات، بواقع 31 مديرية، يعيش فيها قرابة مليوني نسمة، منهم نحو 97% في مناطق غير حضرية (ريفية)، ما يعني شحة البدائل عن المدارس الحكومية _ما خلا استثناءات قليلة جدًا في بعض المناطق_ الأمر الذي يُضيِّق هامش الفرص على المعلمين.


 ذلك أن إمكانية الحصول على فرصة عمل لدى المدارس الخاصة، أو الجمع بين العمل الحكومي والخاص، يعد متعذرًا في وضع كهذا، الامر الذي سبَّب أزمة متعددة الأوجه في مقابل تعذُّر البدائل، على نحو تعيّن معه التماس بعض "الحلول" المؤقتة، لإعادة الاتزان للواقع المائل. 


كحلٍ مرحلي، تلجأ المدارس الحكومية بمحافظة حجة إلى فرض رسوم (تتفاوت أحيانًا) على كل طالب بداية العام الدراسي، بغرض جعلها ميزانية تدفع منها الإدارة مرتبات رمزية للمعلمين تصل في المتوسط إلى ما يوازي خمسين دولارًا في الشهر، أو سبعين دولارًا في الحد الأعلى، مع الأخذ في الاعتبار الفجوة الكبيرة بين هذا المقدار من الأجور ومعدل التضخم وغلاء المعيشة الذي تعيشه البلاد، وذلك ما يدفع نسبة معتبرة من المعلمين تحت ضغط الحاجة، إلى التخلي عن مهنة التدريس والبحث عن أعمال أخرى لا علاقة لها بالتعليم، لتوفير الحد الأدنى من المتطلبات الحياتية. 


يسبب ذلك في المقابل، فراغًا في عدد الكوادر التعليمية بالمدارس الحكومية، ما يستدعي اللجوء إلى الاستعانة بمتعاقدين أقل خبرة وتخصصًا لملء الفراغ الشاغر، بصرف النظر عن المؤهل الأكاديمي، بقدر أهمية الاستعداد للالتزام بعدد الحصص المقررة، والقبول بأي أجرٍ متوفر. 


هذا الإجراء، أفسح الهامش أمام المتعاقدين والمتطوعين للعمل بأجور مُخفَّضة، بدافع حالة العوز والبطالة التي تخنق الطاقات الشبابية في المجتمع المحلي، بمن فيهم حملة الشهادات وخريجي الجامعات في التخصصات المختلفة. 


ورغم الحيثيات التي قد تبرر اللجوء إلى هذا الإجراء المرحلي، يقول بعض المتعاقدين _خصوصًا المعلمات_ إنهم يشعرون بالغبن حيال ما يصفونه بـ"الازدواجية في الأجور" على أساس النوع الاجتماعي، حيث تتقاضى المتعاقدات (من الإناث)، نسبة أقل من نظرائهن الرجال. 


في حديث لـ"حجة21"، تذكر الأستاذة أمة المجيد ناصر (28 عامًا)، وهي معلمة متعاقدة منذ 3 سنوات (حاصلة على بكالوريوس في الدراسات الإسلامية)، أن "التفاوت في الأجور الرمزية للمعلمين المتعاقدين، قد يكون مُبرَرًا في حال كان محك التفاوت هو مستوى الكفاءة العلمية أو عدد ساعات التدريس، لكن من غير العادل أن يتم التمايز على أساس جندري، رغم أن بعض المعلمات المتعاقدات قد يتمتعن بمهارات أفضل، ويعلمن ساعات إضافية بعكس نظرائهن من الرجال، رغم ذلك يكنَّ مضطرات للقبول بأجر أقل من المتعاقدين الذكور". 


وفقًا لناصر، فإن هذه الازدواجية "ليست سوى إفراز طبيعي للواقع الاجتماعي الطافح بالمفاهيم العرفية التي تبخس المرأة، وتجعلها في مرتبة تالية للرجل في كل شيء؛ أعني أن قصدية التراتبية في هذا الجانب أو غيره، قد تكون بطريقة غير واعية، بسبب فرط التراكمات التي تكرِّس لفكرة أن المرأة أقل من الرجل"، حد قولها.


عبء المعاش مسؤولية الرجل

مسؤولٌ في اللجنة الاشرافية بمكتب التربية بمحافظة حجة (طلب عدم نشر اسمه)، علَّل انخفاض أجور المعلمات المتعاقدات عن نظرائهن المتعاقدين، بمحدودية السيولة التي تجمعها المدارس من الطلاب، كبديل عن المرتبات الحكومية، موضحًا: "أحيانًا يكون هناك فارق بسيط في أجور المعلمات عن المعلمين، مراعاة للمسؤولية البديهية للرجل في إعالة الأسرة، وتحمل أعباء المعاش أكثر من المرأة، ولا علاقة لذلك الفارق بأي اعتبارات عرفية أو نوعية". 


على صعيد المجتمع المحلي بمحافظة حجة، يبدو هذا التبرير مقنعًا لنسبة معتبرة من الناس، من واقع خصوصية الثقافة المحلية والناموس العرفي الذي يعفي المرأة من أي التزامات تتعلق بالإنفاق على الاسرة، بعكس الرجل الذي يعد صاحب المسؤولية الوحيد في الإنفاق والإعالة.


 ورغم أن هذه المفاهيم التقليدية قد أخذت في التلاشي في كثير من مناطق اليمن، ما تزال حاضرة بقوة في كثير من مناطق محافظة حجة؛ ذلك بالضبط ما يجعل المجتمع أقل تحفظًا إزاء الأجور الزهيدة جدًا التي تحصل عليها المتعاقدات _سواءً أكان في قطاع التعليم أم في القطاعات الأخرى_ بالمقارنة مع أجور المتعاقدين، مع الإشارة أن ذلك لا يعد مبررًا عادلًا في رأي كثيرين. 


إلى جانب أن هناك نسبة معتبرة من التربويين يرون تقليصَ أجور المدرسات سببًا مباشرًا في مشكلة تضاؤل نسبة الكادر النسائي من المعلمات في جميع مديريات محافظة حجة تقريبًا، في الوقت الذي تلح فيه الحاجة إلى وجود عدد كافٍ من المعلمات في التخصصات المختلفة، ولاسيما مع التوجه الرسمي الجديد لفصل الطلاب عن الطالبات في جميع المراحل التعليمية، بعكس ما كان سائدًا قبل سنوات في كثير من المدارس في ريف محافظة حجة.


 يرى بعض المتحمسين لهذا الرأي، أنه كان من الممكن _في ظل الواقع الطارئ_ استيعاب عدد أكبر من المعلمات المتعاقدات، في حال تم مساواتهن في الأجور الرمزية بشكل مماثل للمتعاقدين الذكور، أو زيادتها على سبيل التشجيع. 


جديرٌ بالذكر أن محافظة حجة تعد إحدى المحافظات اليمنية الأقل حظًا في تعليم الفتيات، لأسباب من بينها غياب البنية التحتية في قطاع التعليم أو محدوديتها، ونقص الكوادر المتخصصة، إلى جانب رسوخ التحفظات الاجتماعية التي ما تزال سائدة في بعض المناطق ذات الطابع القبلي الصارم تجاه تعليم الفتيات، أو الاكتفاء بالمرحلة الأساسية ثم حرمانهن من حقهن في مواصلة التعليم الثانوي والجامعي ما خلا بعض الاستثناءات المحدودة، الأمر الذي يزيد من أهمية إيجاد الوسائل المشجعة للمتطوعات وخريجات كليات التربية والتعليم في جميع مديريات المحافظة، في الانخراط في العمل في المدارس الحكومية، إلى حين تعود الأمور إلى اتزانها الحتمي يومًا ما، كما يأمل اليمنيون. 


* ينشر بالشراكة بين "طالب يمني"، و"حجة 21 "